2020-06-01
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حفظك الله تعالى ورعاك وسدد خطاك
أينما كنت سيدي.
عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً»، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال: فأخبرني عن الساعة. قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل». قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان». ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: «يا عمر، أتدري من السائل»؟، قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»  (رواه مسلم).
سؤالي سيدي
كيف يطبق ويعمل بهذا الحديث النبوي الشريف، السالكون في مناهج أهل التزكية الروحية؟ وكيف يطبق ويعمل بهذا الحديث النبوي الشريف عوام المسلمين؟ وجزيل الشكر سيّدي
 
الاسم: أبو مريم
 
 
الرد:
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
جزاك الله سبحانه خيراً على دعائك ولك بأفضل منه.
أحبّ التأكيد أوّلاً أنّه لا يوجد لأهل التزكية فهم خاص للنصوص الشرعية الشريفة يختلف عن فهم عموم المسلمين، فالمخاطبون بها هم كلّ المسلمين، وعليهم فهمها والأخذ بها قدر المستطاع.
ولكن يمكن القول:-
بأنّ هنالك فهما عاما لعموم ألفاظ النصوص، وفهما أدقّ وأعمق لأهل القلوب، وكذلك أهل التفسير، وأصول الفقه، الذين يغوصون في معاني المفردات ليستخرجوا منها اللآليء والدرر، كمثل قوله عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام وهو يعرّف الإحسان:-
(أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) الإمام البخاري رحمه الباري سبحانه.
فعموم الناس يمرون عليها مرور الكرام دون الوقوف على معانيها.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم وعنكم وجدوا في أنفسهم من شدّة حضورهم مع الله عزّ وجلّ ما يتعاظمون ذكره كما جاء في الحديث الشريف:-
(جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ وعلا.
ولو كان المقصود منه الوساوس كما قال بعض شرّاح الحديث الشريف رحمهم الله جلّ في علاه لأرشدهم عليه الصلاة والتسليم وآله وصحبه أجمعين لطريقةٍ أو ذِكْرٍ لطردها بل قال:- ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، وكان صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم يتوقعه أو ينتظره بدليل سؤاله لهم (أَوَقَدْ وَجَدْتُّمُوْهُ؟).
وقد فصّل ذلك أستاذ الجيل حضرة الشيخ المجدد سيّدي عبد الله بن مصطفى الهرشمي طيّب الله تعالى روحه وذكره وثراه في كتابه القيم المبارك (معالم الطريق في عمل الروح الإسلامي) الصفحة 300.
بعد هذا يمكن أنْ نستنبط من هذا الحديث الشريف معان وإضاءات عدّة، منها:-
1- تمكّن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وعنكم من رؤية سيّدنا جبريل عليه السلام وسماع كلامه بكلّ وضوح، وهذا تكريم لهم (ولو أنّه بحضرة النبيّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام).
2- فيه إشارة لأدبهم مع حضرة النبيّ صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه، إذ لم يبادروا لسؤاله عن الذي كلّمه مع ما يحمل من علامات استفهام من شكله وهيئته وكيف أنّه يسأل ثمّ يصدّق.
3- فيه تعليم كيف يجلس السائل مع المسؤول متأدباً ثانِياً ركبتيه.
4- ضرورة تنوّع التعليم وإيصال المعلومات والوعظ، فالذي جاء على لسان سيدنا جبريل عليه السلام يمكن أنْ يبلّغه سيّدنا رسول الله صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه، ولكنّه وضع في هذا الإطار للتنبيه على ما جاء به، وعلى أنّ العلم يأتي بصور متعدّدة كما أنّ السنّة النبوية المطهّرة منها فعلِيّ، ومنها قوليّ، ومنها تقريريّ، كي يرسخ في أذهان المتلقين سواء ممّن حضر أو من الأجيال اللاحقة.
5- فيه تأكيد على ما جاء به وعلى أهميته مثل أركان الإسلام الخمس والتي جاءت في هذا الحديث العظيم على أنّه تعريف للإسلام وليس فقط أركان من خلال السؤال (أخبرني عن الإسلام) وهي لا تنحصر بمجرّد أركان نؤديها بل لكلّ منها توابع وأعمال وأمور عملية وروحية يجب العمل بها وفهمها الفهم الصحيح.
فالصلاة مثلا ليست مجرّد أفعال مخصوصة بأوقات معلومة إلى غيرها من التعريفات الفقهية فقط، بل ينبغي أنْ يترتب عليها ما يخلي القلب عن الشواغل، وما تنتج هذه الصلاة من ثمار، قال العزيز الغفار جلّ جلاله:-
{— وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ —} [العنكبوت: 45].
وتزيد العبد قرباً من الله تعالى ركعة بعد ركعة فيكون حاله بعد الانتهاء منها أفضل ممّا قبلها.
6- ذَكَر أركان الإيمان وعلامات الساعة وأنّ علمها محصور بالله جلّ جلاله وعمّ نواله القائل:-
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
7- بيّن مقام الإحسان الذي يصبو إليه كلّ من سلك طريق الله عزّ وجلّ وهو (أنْ تعبد الله تعالى وكأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك) وهذا لا يمكن بلوغه إلّا عن طريق مرشد حقيقي موصول اليد بحضرة خاتم النبيين عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم وآلهم وصحبهم أجمعين.
وأرجو مراجعة أجوبة الأسئلة المرقمة (1654، 2131، 2510) في هذا الموقع الكريم.
وصلّى الله تعالى وسلّم على إمام المحسنين، وسيّد المرسلين، نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه المهديين.
والله تبارك اسمه أعلم.