2019-09-16
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو أن تكونوا بصحة وخير في هذه الساعة. سؤالي هو أرجو توضيح جنابكم بخصوص الشيخ الصوفي محي الدين بن العربي خاصة بعد سماع آراء كثيره بتكفيره الصريح واتهامه بالزندقه على أساس ما تمّ ذكره بكتبه عمومًا وفي كتابه الفتوحات المكية خصوصا، ولكم جزيل الشكر.
 
الاسم: أحمد محمد
 
الرد:
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
جزاك الله جلّ وعلا خيرا على سؤالك ودعائك، أسأل الله جلّ في علاه أنْ يوفقك لما يحب ويرضى إنّه سبحانه سميع مجيب.
قال الحقّ جلّ جلاله:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
من الواجب على كلّ مسلم أنْ يحذر من المجازفة في التعصّب والتكفير؛ حتى لا يقع تحت طائلة الوعيد المذكور في أقوال سيّدنا رسول الله صلى الله تعالى وسلّم عليه وآله وصحبه ومَنْ والاه:
(لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوقِ، وَلَا يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ) الإمام البخاريُّ رحمه الباري سبحانه.
وقوله عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام:
(إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) الإمام مسلم رحمه المنعم جلّ وعلا.
ومن تعاليم ديننا الحنيف أنّه يجب على المسلمين، ومن باب أولى متعلميهم، أنْ ينأوا بأنفسهم عن مناهج التكفير وتيارات التبديع والتفسيق والعصبية والتضليل التي انتشرت بين طبقات هذا الزمان – نسأل الله تعالى العافية – وواجب الوقت على المسلمين أنْ يلتزموا بحسن الأدب مع الأكابر من علماء الأمّة وصالحيها؛ فإنّ لحوم العلماء مسمومة، وأيادي مَنْ تطاول عليهم محمومة، وعادة الله عزّ وجلّ في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومَنْ أطلق لسانه فيهم بالثَّلْبِ ابتلاه الله سبحانه قبل موته بموت القلب، والوقيعة في أولياء الرحمن من علامات الخذلان، وفاعل ذلك متعرّض لحرب الملك الديّان جل جلاله، وكما جاء في الحديث القدسي:
(مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ) الإمام البخاري رحمه الله عزّ شأنه.
ومن المعلوم أنّ إحسان الظنِّ بالمسلمين واجبٌ، فكيف بأولياء الله تعالى الصالحين رضي الله سبحانه عنهم وعنكم؟ ولما حكى الإمام النووي رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الخير التيناتي (المتوفى سنة: 343 هـ) رحمه الله جلّ في علاه حكاية ظاهرها الإنكار قال:
(قلت: قد يتوهم مَنْ يتشبّه بالفقهاء أنّه ينكر على أبي الخير هذا، وهذه جهالة ممّن يتوهّم ذلك، واعتداء منه على إرسال الظنون في أفعال أولياء الرحمن؛ فليحذر العاقل التوخّي لشيء من ذلك، بل حقُّه إذا لم يفهم حِكَمَهُم المستفادة، ولطائفهم المستجادة أنْ يتفهّمها ممّن يعرفها، وكلّ شيء رأيته من هذا النوع ممّا يتوهّم مَنْ لا تحقيق عنده أنّه مخالف ليس مخالفًا؛ بل يجب تأويل أقوال أولياء الله تعالى) بستان العارفين (1/73).
والحاصل: أنّ الإمام أبا بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي الظاهري رحمه الله تعالى وإياكم والمعروف بالإمام محيي الدين بن عربي، والملقب عند السادة العلماء من أهل مقام الإحسان وغيرهم بلقب الشيخ الأكبر، وسلطان العارفين، وخاتم الأولياء، المولود يوم الإثنين السابع عشر من رمضان سنة 560 هـ بمرسية بالأندلس، والمتوفى بدمشق سنة 638 هـ، هو أحد الأئمة الأعلام الذين جمع الله تعالى لهم بين سمو شرف العلم وعلو درجة الولاية، وهو من كبار أهل الله سبحانه، وكان فقيهًا على مذهب الإمام داود الظاهري رحمه الله جلّ وعلا، وعقيدته هي عقيدة أهل السنّة والجماعة، وقد ذكرها في أوّل الفتوحات المكيّة وكتب عليها، ومَنْ أراد التوثيق فليرجع إليها، ولأنّها ليست مرقمة لم أشر إليها كما هو معهود عن طريق التحقيق: قال رضي الله تعالى عنه وعنكم:
ليس في هذه العقيدة شيء *** يقـتـضيه التكذيـب والبهـتـان
لا ولا الذي خالف العـقـل *** والنقل الذي قد أتى به القرآن
وعـليهـا للأشعـري مـدار *** ولـهـا فـي مـقـالـه إمـكـــــان
والحقيقة أنّ الإمام ابن عربي رحمه الله تعالى قد وَقَعَ وتعرّض في حياته وبعد وفاته في عِرْضِهِ بعضُ مَنْ لم يتوسّع ويتحصّن بالعلم، وجازف وتسرّع وتعصّب وأخطأ في التطاول على الأكابر ظنًّا منه أنّه ينافح ويدافع عن حمى الإسلام فله العذر منّا ونسأل الله تعالى له ولنا العفو والغفران لأنّه نسي مقام أهل الإحسان، فكان رحمه الله جلّ في علاه يخاطبهم في حياته بقوله:
“والله الموعد”، ثم قيَّض الله عزّ وجلّ له بعد وفاته في كلِّ عصرٍ من أهل العلم مَنْ ينافح ويدافع عنه ضدّ مَنْ يقع فيه؛ مصداقًا لقوله تعالى:
{إِنَّ ٱللهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ} [الحج: 38].
فكان ممّن تحرّكت همَّتُه لذلك العلامة مجد الدين الفيروز آبادي صاحب “القاموس المحيط” المتوفى سنة (817 هـ)؛ فألَّف كتابًا يردّ فيه على ابن الخياط ما اتهم به الشيخ ابن عربي في عقيدته وسمَّاه: “الاغتباط بمعالجة ابن الخياط”
وانبرى للدفاع عنه أيضًا الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى المتوفى سنة (911 هـ) فألَّف رسالتَه: “تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي” وذكر فيها نصوص العلماء في الثَّناء على الإمام محيي الدين بن عربي، وممّا ذكره في ذلك قول شيخ الإسلام شرف الدين المناوي المتوفى سنة (871 هـ):
(والمتصدّي لتكفير ابن عربي لم يخف من سوء الحساب وأنْ يقال له: هل ثبت عندك أنّه كافر؟ فإنْ قال: كتبه تدلّ على كفره، أفأمن أنْ يقال له: هل ثبت عندك بالطريق المقبول في نقل الأخبار أنّه قال هذه الكلمة بعينها، وأنّه قصد بها معناها المتعارف؟ والجواب على الأوّل: لا سبيل إليه؛ لعدم سندٍ يعتمد عليه في مثل ذلك، ولا عبرة بالاستفاضة؛ لأنّه على تقدير ثبوت أصل الكتاب عنه فلا بدّ من ثبوت كلّ كلمة كلمة؛ لاحتمال أنْ يُدَسَّ في الكتاب ما ليس من كلامه من عدوٍ أو ملحدٍ).
وهذا لا يخفى على عاقل اليوم، وكذلك فعل الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله جلّ ذكره؛ حيث أفرد في كتابه “اليواقيت والجواهر” مبحثًا خاصًّا ينفي فيه عن الإمام ابن عربي ما ألصقه به خصومه من دعوى الحلول والاتحاد؛ مستشهدًا على براءته بكلامه هو في “الفتوحات” وغيرها.
كما نافح ودافع عنه كثير ممّن ترجم له؛ كالعلامة الشيخ محمد عبد الرؤوف المناوي رحمه الله سبحانه المتوفى سنة (1031 هـ) الذي يقول فيه:
(والذي أعتقده ولا يصح غيره: أنّ الإمام ابن عربي رحمه الله تعالى ولي صالح، وعالم ناصح، وإنّما وجهت إليه سهام الملامة ممّن لم يفهم كلامه، على أنّه دُسَّت في كتبه مقالات قدره يجلّ عنها).
وترجم له الشيخ ابن العماد الحنبلي المتوفى سنة (1089 هـ) في “شذرات الذهب” ترجمة ضافية؛ مبينًا المنهج الصحيح الذي ينبغي سلوكه في الأدب مع أولياء الله تعالى بحمل ما ينسب إليهم من عبارات موهمة على محامل حسنة؛ حيث يقول: (وقع له في تضاعيف كتبه كلمات كثيرة أشكلت ظواهرها، وكانت سببًا لإعراض كثيرين ممّن لم يحسنوا الظنَّ به، ولم يقولوا كما قال غيرهم من الجهابذة المحققين والعلماء العاملين والأئمة الوارثين: “إنّ ما أوهمته تلك الظواهر ليس هو المراد، وإنّما المراد أمور اصطلح عليها متأخرو أهل الطريق؛ غيرة عليها حتى لا يدعيها الكذابون، فاصطلحوا على الكناية عنها بتلك الألفاظ الموهمة خلاف المراد غير مبالين بذلك”؛ لأنّه لا يمكن التعبير عنها بغيرها).
وقد أثنى على الشيخ الأكبر جماعة من أعيان العلماء وكبار المجتهدين ونعتوه بغزارة العلم وعلوّ درجة الولاية؛ منهم: الإمام مجد الدين الفيروز آبادي صاحب “القاموس المحيط”، والأئمة سراج الدين المخزومي، وكمال الدين ابن الزملكاني، وقطب الدين الحموي، وصلاح الدين الصفدي، وشهاب الدين عمر السهروردي، وقطب الدين الشيرازي، ومؤيد الدين الخجندي، والإمام النووي، والإمام فخر الدين الرازي، واليافعي، وبدر الدين بن جماعة، وسراج الدين البلقيني، وتقي الدين السبكي، والحافظ السيوطي، وابن كمال باشا، وغيرهم كثير رحمهم الله جلّ جلاله.
وقد كان الإمام المجتهد شيخ الإسلام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى ينكر على الشيخ ابن عربي في أوّل أمره، فلمّا عرف مقامه شهد له ورجع عن إنكاره، وقرر أنّ الإمام محيي الدين قطب زمانه.
وبالجملة؛ فإنّ الدعوى المسوقة في السؤال دعوى ملقاة على عواهنها؛ لا زِمام لها ولا خِطام، بل المحققون المنصفون من أهل السنّة متفقون على جلالة الإمام محيي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه في سائر العلوم وعلوّ كعبه في الولاية، وما أنكر عليه مَنْ أنكر إلا لدقَّةِ كلامه لا غير؛ فأنكروا على مَنْ يطالع كتبه من غير أنْ يسلك طريق القوم خوفًا عليه من أنْ يعتقد شيئًا لا يقصده الشيخ رحمه الله سبحانه.
فعلى المسلم أنْ لا يعرّض نفسه لغضب الله تعالى بالوقيعة في أوليائه الصالحين؛ وإذا كنا مأمورين بحفظ ألسنتنا عن عوام الخلق من عباد الله جلّ في علاه فمن باب أولى أنْ نحفظ ألسنتنا عمّن شهد له أهل العلم بالعلم والصلاح ولا قدرة لنا على تأليف القلوب وجمعها على كلمة واحدة إلا بما شاء الله جلّ وعلا لهذا فليحذر وليحذر امرؤ لنفسه، وكلّ امرئ حسيب نفسه وعلى لسانه رقيب، قال الحق جلّت قدرته:
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وَعَنْ سَيِّدِنَا مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ:
(كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، قَالَ: ثُمَّ تَلاَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) الإمام الترمذي رحمه الله جلّ في علاه.
وصلّى الله تعالى وسلّم على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله جلّ ذكره أعلم.